الخميس، 4 يونيو 2015

ضوابط نجاح العمل الجماعي في حفر الخندق




ضوابط لنجاح العمل الجماعي

نجح هذا المشروع تمامًا، وهو عمل جماعي يجب أن يكون له ضوابط حتى ينجح على هذا المستوى، فكيف استطاع رسول الله أن يُتم هذا العمل بأكبر فرص النجاح التي تحققت فيه؟

لقد أدار رسول الله هذا المشروع بكفاءة غير متخيلة، ووضع لنا قواعد نجاح الأعمال الجماعية، تلك القواعد التي إن أخذ بها المشركون نجحوا في عملهم، فما بالكم بالمؤمنين الذين يؤيدهم ربنا ، ويبارك خطواتهم.

هناك في الحقيقة العديد من الضوابط، ولكننا نكتفي بذكر أربعة ضوابط فقط:

الضابط الأول: مشاركة القائد لجنوده

لو شارك القائد جنوده فإنهم لا شك سيُخرجون أقصى طاقاتهم، وليس ذلك نتيجة خوفهم من القائد، وإنما نتيجة شعورهم بوجود قضية مشتركة مهمة.

وهكذا وجدنا الرسول وهو النبي المطاع وهو الحاكم لدولة المدينة وهو القائد الأعلى لجيش المسلمين، ينزل بنفسه لحفر الخندق مع المسلمين، ليس فقط للإشراف على الحفر، بل يحفر بنفسه، يضرب بالمعول بنفسه يحمل التراب بنفسه كاشفًا بطنه حتى لا تعيق الملابس حركته.

هل يمكننا أن نتخيل ذلك؟!

هذه من ضوابط نجاح العمل الجماعي، الجيش كله يعاني من الجوع، انتهى ما لديهم من زاد، ولنترك أنس بن مالك ، يحكي لنا -فيما رواه البخاري- ما كان أهل الخندق يَطعمون أيام الأحزاب يقول: "... يُؤْتَوْنَ بِمِلْءِ كَفِّي مِنْ الشَّعِيرِ (وأنس طفل صغير آنذاك، فتخيل كم حجم كفيه) فَيُصْنَعُ لَهُمْ بِإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ (أي دهن تغير لونه وطعمه من القِدم) تُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْ الْقَوْمِ وَالْقَوْمُ جِيَاعٌ وَهِيَ بَشِعَةٌ فِي الْحَلْقِ وَلَهَا رِيحٌ مُنْتِنٌ".

هكذا كان أكلهم، هذا هو طعامهم، فماذا يأكل القائد إذًا؟

يذكر أبو طلحة الأنصاري : شكونا إلى الرسول الجوع فرفعنا عن بطوننا عن حجر فرفع عن حجرين!!

فإذا كان الشعب جائعًا، فإن قائده يعاني من الجوع أكثر منهم. هذا هو المجتمع الذي ينجح -ولا شك- في الأعمال الجماعية. كثيرًا ما نفشل في أعمالنا الجماعية؛ لأننا نستمع إلى خطب رنانة، وكلمات براقة، تدعو إلى الكفاح، وبذل الجهد، والعمل، ثم لا نجد من يستثير الحماس، ويلقي الكلمات في الخندق مع عامة الشعب، بل على العكس نجد الشعب يكدح، وقادته ينعمون بالراحة، الشعب يجوع، وقادته يعانون من التخمة، فكيف يمكن أن ينجح عمل في وضعٍ كهذا.

يروي لنا جابر بن عبد الله أنه كان عنده طعام قليل جدًّا (قليل من اللحم وقليل من الخبز) يكاد لا يكفي لرجلين أو ثلاثة، ذهب إلى رسول الله ، لأنه لاحظ أنه قد أضناه الجوع أكثر من الجميع، يقول: رأيت في النبي خمصًا شديدًا (جوعًا شديدًا) فأحب أن يطعم الرسول واثنين من الصحابة، فعندما علم رسول الله بذلك، لم يذهب ليأكل مع جابر وحده، بل هتف في الخندق بأعلى صوته، وقال لهم أن جابرًا قد أعد لهم وليمة، هنا أسقط في يد جابر ، وذهب يركض إلى زوجته لتعد الطعام كله، تقول له زوجته: هل أعلمته أن الطعام يكفي رجلين أو ثلاثة؟ فقال: نعم. فقالت: الله ورسوله أعلم. منتهى اليقين، وجاء رسول الله بألفٍ من أهل الخندق، وبمعجزة من معجزاته أخرج لهم الطعام من البرنة، والخبز من الفرن، وأخذ يطعمهم عشرة عشرة، حتى انتهى منهم جميعًا ثم أكل هو في النهاية.

هكذا يكون الإيثار، وإنكار الذات تمامًا، لا يرى -عليه الصلاة والسلام- إلا شعبه، ولا يهتم إلا بهمومهم.

وهكذا، فأهم ضوابط العمل الجماعي وعلى أي مستوى سواء كان العمل هذا العمل مكونًا من ثلاثة، أو عشرة، أو ألف، المهم أن يشارك القائد جنوده.

الضابط الثاني: توزيع الأعمال على الجميع

كثيرًا ما تفشل أعمالنا الجماعية، لأن الذين يقومون بها ويحملون عبئها 4 أو 5 فقط، أما البقية فمتراخين عن العمل، ولذلك اهتم الرسول بتوزيع الأعمال على الجميع، وتوزيع المهام لكل رجل حسب طاقته، فلم ير في الصف أحد متراخٍ أو متهاون، إن رسول الله يعطي كل رجل مسافة أربعين ذراع، إذا أنهاها أخذ غيرها. وهكذا، وبذلك يظل الجميع في عملٍ دءوب، ما إن يتمه الأول حتى يأخذه الثاني، حتى يتم العمل على أكمل وجه.

الضابط الثالث: الجمع في الإدارة بين الحزم والرفق

يتم وضع حدود وضوابط للعمل والاستئذان عنه، تلك الضوابط إلزامية على الجميع، لا يتهاون بها أحد كبيرًا كان أو صغيرًا، والجميع يأتمر بأمر القائد ويخضع لأحكامه، فلا جماعة بغير إمرة، ولا إمرة بغير طاعة، إذا لم تتضح قضية الطاعة في ذهن العامل، يفقد العمل الجماعي أهميته.. يقول رسول الله : "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني". كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة.

هذا كلام الرسول ، وهذا ما علمه إياه ربنا ، حينما قال له في قضية الحزم في الإدارة: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 62].

فمن ترى أن العمل لن يتأثر بغيابه، أو ترى لديه ظرف قهري فائذن له, أي أن الإذن ليس مجرد إعلام لقائد العمل، كلا، إنه طلب يحتمل الرفض ويحتمل القبول، ومع ذلك فالرسول ، لم يكن يتعسف في استخدام هذا الحق بل كان فعلاً يأذن لبعض الصحابة إن رأى أن لهم ظرفًا قهريًّا طارئًا، وكان الجميع ينظر بصدق إلى أهمية إنجاح العمل الجماعي الذي يقوم به، وفي نفس الوقت لم يكن هذا الحزم يعني الغلظة والجفاء والقسوة، حاشا لله، ولكن الرسول علمنا كيف يمكننا أن نجمع بين الحزم والهيبة والاحترام باللطف في المعاملة وبالرقة في الحديث بل بالدعابة والمرح والترفيه، وها هم الصحابة مع رسولهم الكريم أثناء حفر الخندق ينشدون شعر ابن رواحة:

اللَّهُمَّ لَوْلا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا *** وَلا تَصَدَقَّنَا وَلا صَلَّيْنَا

فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَــا *** وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاقَيْنَا

إِنَّ الأَلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا *** وَإِنَّ أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَـا

ويحفزهم رسول الله وهم يحفرون في البرد والجوع فيقول: "اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الآخِرَةِ، فَاغْفِرْ لِلأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَةِ".

فيرد عليه الصحابة ويقولون: نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدًا عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدًا.

وهكذا، مع النظام والحزم، والترتيب تسود مشاعر الألفة والسعادة والمشاركة، وبذلك ينجح العمل الجماعي بامتياز.

الضابط الرابع: رفع الهمة وبث الأمل في النفوس

وقد كان الرسول يرفع من همة الصحابة في كل المواقف الصعبة، هذا كان منهج حياته ، وما فعله أثناء حفر الخندق يفوق التصور، فإنه لم يعطهم أمل في حفر الخنق فحسب تلك المهمة العسيرة، أو أنهم سيتنصرون على هذه الأحزاب المتجمعة فقط، أو أنهم سينتصرون على العرب قاطبة، بل يرفع همتهم لما هو أعلى من أحلامهم، يزرع بداخلهم الأمل في سيادة العالم بأسره.

قال ، وهو يضرب صخرة صعبة اعترضت الصحابة فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ، فَقَالَ: "بِاسْمِ اللَّهِ". فَضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ وَقَالَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ مِنْ مَكَانِي هَذَا". ثُمَّ قَالَ: "بِاسْمِ اللَّهِ". وَضَرَبَ أُخْرَى فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ، فَقَالَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ الْمَدَائِنَ وَأُبْصِرُ قَصْرَهَا الْأَبْيَضَ مِنْ مَكَانِي هَذَا". ثُمَّ قَالَ: "بِاسْمِ اللَّهِ". وَضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَقَلَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ فَقَالَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي".

وهكذا يعلمنا رسول الله أن نعظم من أحلامنا، ونكبر أهدافنا، لم تعد قضيته هي الحصار، أو الدولة المدينة الصغيرة التي يعيشون داخلها الآن، بل قضيته الكبرى نشر رسالة الإسلام إلى الأرض قاطبة، وهذه المبشرات ليست أوهامًا يعلق قلوبهم بها، وإنما هي قول من لا ينطق عن الهوى، ووعد الله الذي لا يخلف الميعاد.

لهذا كله، نجح الصحابة في حفر الخندق العملاق.. لم يصبهم اليأس، أو ذرة إحباط، بل واصلوا العمل حتى أتموه، وفي زمن قياسي، ونجح المشروع، لتبدأ المعركة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق